على ابواب الحياتة
للكاتب : عبدالله عياد العتيبي
لاستقبال ارائكم:
x_b_5@hotmail.com ( 1 )
على غير موعد سابق ....
وَجَدَ هؤلاء الأربعة أنفسهم أمام باب المدينة، وقد أتى كل واحد منهم من اتجاهات مختلفة ومن مشارب متفرقة.
ولو رأيتهم للوهلة الأولى لما وجدت بينهم قاسمًا مشتركًا واحدًا يجمع بينهم سوى أنهم يقفون أمام باب المدينة فى هذه اللحظة .
فحين تنظر إلى "حمدان" تجد أمامك رجلا أسمر اللون طويل القامة مفتول العضلات قوى البنية غائر العينين. قد حُفرت على جبينه خطوطٌ واضحة .
تَرَكَ لحيته لم يحلقها تماما ولم يطلقها تمامًا مما يشعرك بأن هذا الرجل الذى أمامك لا يستهويه أن يقف طويلا أمام المرآة.
أما ثيابه التى يرتديها فتشعر منها أن الأربعة لو أرادوا أن يحفروا بئرًا لقام بقية الأربعة بخلع ملابسهم وارتداء ملابس مغايرة، ثم يرتدون ملابسهم بعد الانتهاء. أما "حمدان" فلن يغير ملابسه قبلها ولا بعدها، ومع ذلك كله فإن ثيابه ليست قذرة ، ولكنها مرسومة عليه.
على عكسه تمامًا كان صاحبهم الثانى " بهاء " فقد كان شابا وسيمًا قد رسمت الأقدارُ هيئتَه كأنما ترسم لوحةَ فنيةَ رائعة. فلو نظرت إلى عينيه لاحترت فيهما أهى عيون خضراء أم زرقاء؟ مع جاذبية دون كلام .. قد وضعت كل عين فوق وجنة كوجنة أجمل النساء يتوسط الوجنتين أنف دقيقة وتحته فم قد حوى أسنانًا كاللؤلؤ..
وكان الفرق واضحًا بين الرجلين ...
فكان الأربعة إذا جلسوا ، فإنهم ينظرون إلى "بهاء" كواحة خضراء قد وُضعت فى صحراءَ قاحلة ، من أين أتوها فهى واحة جميلة .
وإذا رغبوا فيمن يخدمهم ويساعدهم ويعاونهم فى عمل شئ يلجأون إلى "حمدان" .
ولو ذبحت كلَ واحدٍ منهما لأن يكون على هيئة الآخر، لما وافق أبدًا، ولرفض رفضًا باتا ..
أما " عوف " فكان رجلا عاقلا ، كلامه قليل .. كثير الصمت ولا يدخل فى أى موضوع إلا إذا طُلب منه فإذا حدثته وجدته رجلا واعيا لكل ما يدور من حوله، وإن حاول أن يبدى أنه لا يعلم شيئًا.
أما " قُصَى " فحين تراه تشعرُ أنك أمام إنسان لم يحمل –يومًا- همًا للحياة .. فلو هُدمت المدينة بأكملها لهرب الجميع إلا هو، فسيفكر فى لحظتها عن موطن الاستفادة فى هذه اللحظة ..
وإنه لا يشغله الماضى كثيرًا ولا يعنيه المستقبل فى شئ .. فالمستقبل عنده فى علم الغيب، أما الماضى فقد مضى بحلوه وبمره.
ومع ذلك فهو شخص مُهاب الجانب، يرجع إليه الجميع فيما يريدون. استوعب مجالات الحياة جميعًا بما فيها من مهارات مختلفة يُكبره من يراه فى نفسه ويجله أن يكون عاملا أو أن يكون إنسانًا عاديًا، إنه لا يصلح إلا أن يكون ربان سفينة أو قائدًا عظيمًا.
اجتمع هؤلاء الأربعة ليدخلوا المدينة ....
ودخل عليهم المساء ، ولم يستطيعوا دخول المدينة فى ذلك اليوم . بل أُغلقت الأبوابُ فى وجوههم ، ومنعهم الحراس من الدخول .
وجلسوا لانتظار الصباح ، وكل واحد له آمال عريضة فى أن يأخذ تأشيرة الدخول إلى هذه المدينة العامرة .
وبينما هم كذلك دار بينهم هذا الحوار ..
( 2 )
قال قائلهم : ما أكبر الأشياء التى تؤثر فى حياة الإنسان كلها ؟
قال "حمدان" : وهل ذلك سؤال ؟! .. إن شيئًا واحدًا هو الذى يدفع الإنسان إلى الأمام .
قالوا : وما هو ؟
قال "حمدان" : إن جِدَّ الإنسان واجتهادَه وسعيَه هو المؤثر الوحيد فى حياته .
فإذا اجتهد تقدم إلى الأمام ، أما إذا تكاسل فإنه سيكون فى المؤخرة.
ضحك "بهاء" ساخرًا وهو يحرك خصلات من شعره بيده : هذا الرجل لا يفكر إلا بذراعيه .
قالوا : وما رأيك أنت يا بهاء ؟!
قال "بهاء" : إن جمال الإنسان وهيئته الحسنة هى المؤثر الوحيد فى حياته .
نظر بعضهم إلى بعض .
فقال "بهاء" : ألا ترون أن ملوكًا كبارًا قد ضحوا بمناصبهم من أجل الزواج بفتاة جميلة من أكثر البيئات فقرًا وحاجة .
ثم أكمل ..
إن مجرد هيئة الإنسان الحسنة تفتح له الأبواب المغلقة .
فنظر "حمدان" إليه فى ازدراء وقال موجها كلامه إلى صاحبهم "عوف" قائلا له : هل هناك أحدٌ يصدق أن في الدنيا مثل هذا المخنث ؟
قال "عوف" ويبدو من طريقة كلامه أنه اُضطر إلى الدخول فى موضوع لم يكن يريد الدخول فيه : كلاكما مسكين .. لا يعرف كيف تسير الأمور فى هذه الحياة .
ثم تابع يقول : إن العقل هو الشئ الوحيد المؤثر الذى يدفعك إلى مصاف كبار العظماء ..
ثم تابع يقول : وأظن أن كل من له عقل يعرف ما أقول ..
ثم اتجه بكلامه إلى "قُصَى" وقال له : ألا تؤيدنى فيما أقول لهم يا "قُصَى"؟
قال "قُصَى" : أؤيدكم جميعًا .. و لكن ..
قالوا : لكن ماذا ؟!
قال "قُصَى" : أحب أن أقول إن الأقدار هى التى تؤثر فى حياة الإنسان أولا وآخرًا ، فقد يُولد فيجد نفسه مَلِكَا مُتوجًا من صغره دون أن يكون له دخلٌ فى ذلك .. وقد يولد فيجد نفسه فى بيئة سيئة دون أن يكون له دخل فى ذلك .
وقد يرث الإنسانُ ثروة كبيرة ولا دخل له فى ذلك .
وقد يجد الإنسان نفسه مسئولا عن أفرادٍ كثيرين تركهم له أبواه ولا دخل له فى ذلك .
بل إننا ونحن نقف أمام باب المدينة هذه، قد يأخذ أحدُنا تأشيرة الدخول فيدخل فى هذه المدينة وقد يعيش فيها سنوات وربما يتزوج من أهلها وقد يموت فيها ويدفن بها ..
وقد لا يُسمح له بالدخول، فيرجع ذاهبا إلى أى مكان آخر ..
إن أمور الحياة كلها ترجع إلى أقدار السماء ..
ثم ناموا جميعا بعد هذا الحوار الطويل لينظروا ما هم فاعلون فى الصباح ..
( 3 )
أرسل الصباح أشعته عليهم فاستيقظوا من سبات عميق ..
فإذا بالحارس ينادى : لن يُسمح بالدخول الى المدينة إلا لواحدٍ فقط على أن يرجع فى آخر النهار ..
صاح الجميع : ولم ؟!
قال الحارس : هذه هى التعليمات الواردة إلينا .
ذهب "عوف" الى الحارس - وكأنه صديق قديم - فتجاذب معه أطراف الحديث . وقال له من بين ما قال : ما الداعى لذلك ؟
قال الحارس له وهو يتلفت كأنه يقول له سرًا خطيرًا : إن بداخل المدينة اضطرابات كثيرة بسبب الحالة الصحية لملك المدينة .
قال "عوف" للحارس : ألا يمكن أن يدخل اثنين ؟
قال الحارس : ليس الأمر بيدى ، فاختاروا واحدًا منكم يدخل اليوم .
رجع "عوف" الى أصحابه قائلا : نختار رجلا يدخل كل يوم ثم يرجع فى نهاية اليوم .
قال "بهاء" مشيرًا الى "حمدان" : أنت .. أنت
ادخل الى المدينة وسوف نرى ماذا تصنع بجدك واجتهادك !
فانتصب "حمدان" واقفًا وقال : سوف ترى .
فدخل "حمدان" الى المدينة وأخذ يبحث فيها ماذا يصنع فى يومه حتى رأى رجلا يشبهه فذهب اليه ..
قال "حمدان" للرجل : ما هو العمل الذى إذا صنعه الرجل فى هذه المدينة يحصل منه فى آخر يومه على طعامٍ يكفى لأربعة أفراد .
قال الرجل : يمكن أن تذهب الى الشعاب وأقاصى المدينة فتجمع حطبًا ثم تأتى فى آخر اليوم فتبيعه فى السوق .
لم يتأخر "حمدان" للحظة واحدة ، بل عمد إلى جمع الحطب وبكل جد واجتهاد . وأبدى حمدان مجهودًا بارعًا حتى جمع حطبًا كثيرًا ثم ذهب الى سوق المدينة فباعه بدينار بأكمله . فاشترى طعامًا جيدًا له ولأصحابه. واشترى فاكهة كذلك ورجع اليهم كما يرجع الرجل الأجير الى أولاده وزوجته فى آخر يومه.
كان الرفاق قد بلغ بهم الجوع مبلغه فاتجهوا فعلا الى "حمدان" والتفوا حول الطعام والشراب والفاكهة فشبعوا جميعًا وشكروا له فعله، حتى "بهاء" نفسه شكر له فعله .
قام قُصَى وكتب على باب المدينة ما يلى :
جد واجتهاد المجتهد فى يوم واحد يكافئ دينار واحد .
( 4 )
فى اليوم التالى وقع اختيارهم على صاحبهم الثانى بهاء فدخل المدينة .
وسار بهاء فى طرقات المدينة ..
وقادته نفسه الى الأماكن الجميلة بين الأشجار والحدائق والنهار الجارية ..
يتنقل بينها كما تنتقل الفراشات بين الأزهار والورود .
وبينما كان بهاء على هذه الحال ، رأته إحدى أميرات المدينة بين الحدائق والأشجار والثمار ..
فراعها هذا الحسن والبهاء والجمال ...
فأشارت اليه ، وتبادلا الابتسامات.
ثم أرسلت الأميرةُ وصيفتَها اليه ..
فأقبلت الوصيفةُ إليه قائلة : إن سيدتى تدعوك إليها .
فانطلق معها الى قصرها المشيد .
وظل معها يومه بأكمله ..
شرب كل منهما من رحيق الآخر ، كأنهم أناس قد أتوا من كوكب آخر .
وطوت اللحظاتُ السعيدةُ نهارَ اليوم ، وأفاق كل منهما على نهاية اليوم .. وهنا انتزع بهاء نفسه من أحضانها ..
فدست الأميرةُ فى ملابسه مائة دينار ،
وقالت له : لو دخلت المدينة فى أى يوم فإنى على شوق متى الأيام تجمعنا .
اشترى بهاء لأصحابه من أطايب الطعام والشراب ورجع اليهم ..
فأكلوا وشربوا جميعًا ..
وبعد أن أكلوا وشربوا حكى لهم ما حدث ..
فضحكوا جميعًا إلا "حمدان" فقد أقسم أنه لو علم ذلك قبل أن يأكل لما أكل ولا شرب حتى لو مات جوعا وعطشا ..
قام "قُصَى" وكتب على باب المدينة ما يلى :
جمال الجميل فى يوم واحد يكافئ مائة دينار .
( 5 )
فى اليوم الثالث ...
انطلق "عوف" ودخل المدينة ..
فعمد الى سوق المدينة مباشرة، وتخيَّر بعضَ التجار فسألهم عن الميناء التى تأتى بكل هذه البضائع فدلوه على الميناء فذهب اليها.
وقد وجد الرجل مكانا قد أُعد للجلوس فجلس، وطلب مشروبا يشربه، وجلس يسمع تعليقات التجار وكأنه لا يعنيه شئٌ من هذا الكلام .
وعلم من خلال كلامهم أنهم ينتظرون مقدم سفينة ضخمة محملة بأنواع مختلفة من الأقمشة .
ورغم حاجة التجار الشديدة الى هذه البضائع إلا أنهم اتفقوا بينهم أن يبخسوا هذه البضائع حتى يشتروها بأقل الأثمان .
وسمع "عوف" حوارهم وشهد اتفاقهم وهو جالس. وبينما هم كذلك نادى المنادى يعلن للتجار مقدم السفينة المنتظرة .
فنهض "عوف" وركب مركبًا صغيرًا وقابل السفينة المقبلة .
وكان "عوف" تاجرًا مشهورًا قبل ذلك فعرفه أصحابُ السفينة المحملة بالبضائع . وقال لهم : أنا أشترى منكم هذه البضائع المحملة على المركب كله .
واتفق معهم على سعر كبير على أن يعودوا بهذه البضائع مرة أخرى الى بلد آخر .. وهناك سوف يعطيهم المبلغ المتفق عليه .
وتمت صفقة البيع ...
وأمر "عوف" عمالَ السفينة أن يوجهوا السفينة ليرجعوا بها من حيث جاءت .
وكان التجار على الشاطئ ينظرون الى السفينة منتظرين وصولها . فلما رأوا ما رأوا ، كسروا حاجز صمتهم وأخذوا يشيرون لها بالتوقف .
وركب وفدٌ من التجار مركبًا صغيرًا واتجهوا به الى سفينة البضائع.
فلما علموا أن "عوفًا" اشترى البضائع تفاوضوا معه . وأبدى "عوف" لهم أن بلدًا مجاورًا ينتظر هذه البضائع ليأخذها بأعلى الأسعار .
فقالوا له : نزيدك ما تريد .
وأخذ "عوف" يتمنع عليهم وهم يرجونه ليشتروها منه .
وفى نهاية المطاف باعها لهم "عوف" صفقة رابحة حيث زادوه على ما اشتراها ألف دينار كاملة .
وأخذ "عوف" الألف دينار واشترى لأصحابه من أطايب الطعام والشراب ورجع اليهم ..
فأكلوا وشربوا جميعًا ..
وبعد أن أكلوا وشربوا حكى لهم ما حدث ..
فأُعجبوا من تفكيره وعقله الراجح .
وقال لهم "حمدان" : إن "عوفًا" هذا يصلح أن يكون مقاولا كبيرًا .
ضحك بهاء كما لم يضحك من قبل على هذه الكلمة ..
و قام "قُصَى" وكتب على باب المدينة ما يلى :
عقل العاقل فى يوم واحد يكافئ ألف دينار .
( 6 )
فى اليوم الرابع ...
دخل "قُصَى" الى المدينة فوجدها خالية من الحركة ، وظل يسير حتى ساقته قدماه الى صخرةٍ فجلس عليها .
وبينما هو جالسٌ كذلك ، مرت عليه جنازة كبيرة فأخذ ينظر اليها من بعيد وهو لا يأبه لهم ، بل كان فى تفكير آخر تمامًا .
وبينا هو كذلك إذ أقبل عليه شرطي مدجج بالسلاح ، فنهره .
وقال له آمرًا : قم .
قام "قُصَى" مع الشرطى وهو ولا يدرى ما حدث .
فعلم من خلال كلام الشرطى أن مَلِكَ هذه المدينة قد ساءت صحته أكثر ومات . وكانت الجنازة الكبيرة جنازته .
فأخذ "قُصَى" يقسم أنه لا يدرى .
وأنه لم يدخل المدينة إلا فى هذا اليوم ، فلم يسمع له الشرطى بل قذف به فى غياهب السجن .
ثم قال الشرطى : سوف تحاكم على فعلك الشائن .. وستعلم يا صعلوك كيف تقدر الملوك .
وبعد أن دفن أهلُ هذه المدينة ملكَهم رجعوا حزينين على سيدهم ومَلِكِهم .
واجتمع الوزراء فى اليوم الثانى مباشرة ليختاروا ملكًا يقودهم ، فاختلفوا بينهم اختلافًا كبيرًا لم يصلوا معه إلى شئ .
وفى اليوم الثالث اجتمعوا ليصلوا إلى اختيار جيد يقى العباد والبلاد شر الفتن الداخلية والخارجية .
فدخل عليهم الشرطى الذى قبض على "قُصَى" وقال لهم : لقد تم القبض على رجل كان يجلس وجنازة ملكنا الراحل تمر ،
فليأذن لنا السادة الوزراء بالحكم عليه .
فأخذ الوزراء يقولون لا بد أن نصنع من هذا الرجل عبرة لكل من يسئ الأدبَ مع ملك البلاد حتى لا يكون ذلك ديدنا .
وأمروا الشرطى أن يأتى بالسجين ليروا فيه رأيا . فجاء "قُصَى" من السجن مكبلا بالأغلال ..
فسأله أحدُ الجالسين : لماذا كنت جالسًا عند مرور جنازة الملك ؟!
فقال "قُصَى" : لم أكن أدرى أن هذه جنازة مَلِكِ البلاد .
قالوا : أو يُعقل ألا يعلم أحدٌ بموت الملك ، وقد علم الجميع مرض الملك وموته .
أخبرهم "قُصَى" أن هذا هو اليوم الأول والوحيد الذى دخل فيه تلك البلاد.
فسألوه : من أين أتيت ؟
فحكى لهم "قُصَى" حكايته وأخبرهم أنه كان ابنًا لملك مدينة أخرى وقد مات أبوه وتركه هو وأخاه. فأراد أخوه أن يتخلص منه حتى لا ينافسه فى حكم البلاد . فخرج هاربًا بنفسه من بلده التى ضاقت عليه إلى أرض الله الواسعة .
وها هو يقف ليُحاكم على جريمةٍ ، ليس له دخلٌ فيها .
تَفَرَّسَ بعض الجالسين فى وجه "قُصَى" ، ومدحوا أباه الملك السابق وتذكره بعض الوزراء عندما كان فتى صغيرًا ..
ووجد الوزراءُ والقادةُ فى "قُصَى" بغيتَهم كملك عظيم ، قد تربى فى بيت الملك وقد اشتهر أبوه بالحكمة والقيادة الرشيدة ..
ورغم أن كل واحد من الوزراء والأمراء والقادة يطمعون فى الملك إلا أن الجميع سيقفون له بالمرصاد .. وقد يؤدى بهم ذلك إلى دمار البلاد وهلاك العباد وخراب المملكة وطمع الأعداء ..
فاتفقت كلمتُهم على تولية "قُصَى" ملكًا للبلاد ..
وكانت المفاجأةُ كبيرةَ عند "قُصَى" ، فقد هرب من بلده ليعيش كرجل شارد يتخفى حتى لا يعرفه أحد ، فإذا بالأقدار تسوقُ إليه مملكةً أخرى أعظم من بلده التى تركها .
وتولى "قُصَى" أمور المملكة وأصبح ملكًا فى نفس اليوم الذى سيق فيه ليقتل ..
وظلت احتفالات ومراسم تولية الملك الجديد أيامًا سبعة ، والملك "قُصَى" لا يكاد ينتهى به مجلس أو مقابلة إلا ويدخل فى أخرى ..
وانتصب "قُصَى" إلى دوره الجديد يقرأ الإحصائيات والميزانيات .. ويرتب أمور البلاد ويقرب هذا منه ويبعد هذا .
وظل كذلك ثلاثة أشهر لا ينام إلا بشق الأنفس ..
وقد نسى تمامًا من أين جاء ونسى رفاقَه المحجوزين على باب المدينة .
(7)
وفى يومٍ من الأيام ..
وبينما "قُصَى" يتفقدُ أمورَ المملكةِ مَرَّ على باب المدينة وسورها من بعيد فَهَالَه ذلك النسيان ..
واتجه إلى أصحابِه فى زينته وخدمه وحشمه ، ونادى عليهم ليحدثهم فأخذوا يكلمونه بكل أدب ووقار ..
وكأنه شخص آخر ، وابتسم وهو يسمع لكلامهم كأنهم هم أناسا
آخرين غير الذى قابلهم أمام باب المدينة ..
وفعلا لم يعرفوه حتى لو كان الشبهُ كبيرًا بين "قُصَى" وبين الملك .
وهنا أمر "قُصَى" الجنودَ والحراس بالابتعاد، وجلس بين أصحابه يحكى لهم ما حدث بينهم قبل ذلك فأيقنوا أنه هو "قُصَى" صاحبهم ..
فاحتضنوه وهم بين اليقظةِ والذهولِ لما يَرَوْنَ ويسمعون ..
لم يحدثهم "قُصَى" كيف صار ملكًا إلا بعد أن ذهبوا إلى قصر الملك وجلسوا فيه أيامًا عديدة يأكلون ويشربون ...
وينعمون بضيافة الملك .
وبعد أيام الضيافة ...
أعطى الملكُ خمسين فدانًا لحمدان يزرعها ويعيش فيها ، وعلم أنه لن يهملها ولن يضيعها .. بل سيرعاها ويزرعها كأحسن ما يكون .
أما "عوف" .. فقد اختاره ليكون وزيرًا له من بين وزراءِه لرجاحةِ عقلِه واتزانِ رأيه .
أما بهاء .. فقد أغدق عليه العطايا والهدايا، وأمره أن يغادر المملكة ويعيش فى بلد أخرى حتى لا يفسد المملكة بتصرفاته مستغلا صداقته للملك .
وأمر "قُصَى" بسور المدينة أن يُدهن من جديد ..
ثم كتب عليه هذه العبارة ….
ما من جد مجتهد ، ولا جمال جميل ، ولا عقل عاقل ..ينفع إلا بقضاء الله وقدره.
اقترب "عوف" من الملك وقال له بكل عقل ورزانة : يا سيدى، أتعنى أنه لا شأن للجد فى الحياة ، ولا للجمال ولا للعقل ؟!
قال الملك : ما أجمل عقلك يا "عوف"، فقد أوصلك إلى ما أنت فيه. لكن هل كان عقلك ينفع إذا أراد الله بك أمرًا آخر ؟!
قال "عوف": أبدا .
قال الملك : هذا هو ما أردت .. ثم تابع يقول :
إن الإنسان عليه أن يجد وقت الجد، ويتهيأ بأفضل الهيئات واللباس والجمال، ويُعمل عقله فى كل أمره، لكن يعلم أن كل ذلك لا ينفع إلا إذا شاء الله.
تعانقت أيدى الرجلان وشد كل منهما على يد صاحبه واتجها إلى مقر الملك وفى نية كل منهما أن ينهض بأمته لتصل إلى جمال الظاهر والباطن بجد المجتهدين وبالرأى الحسن وبتوفيق الله تعالى.
وكان "قُصَى" يشد على يد "عوف" ، فقد حاز "عوف" عنده على أمرين أولهما الثقة وثانيهما الكفاءة، وهاتان الخصلتان أولى ما تُراد من الوزراء.
وأخذ "حمدان" يرقبهما من بعيد، والسرور الأكبر له أن الملك استبعد ذلك المخنث ..
أما "بهاء" فكان فى القافلة المبتعدة عن المدينة، قد انشغل بامرأة وانشغلت به كل يناجى صاحبه بالأعين المتواعدة والمتوثبة.
وسبحان الله الذى أعطى كل بال ما أشغله !